أما الإسلام فإنه لما كان الرومان عامة يعدون كل ما عداهم من الشعوب برابرة، ولما كان البابوات ورجال الكنيسة يعدون الإسلام وثنية فقد اتفق الموردان في النظرة القاتمة إلى العالم الإسلامي، وامتـزجت العنصرية القديمة بالحقد الديني الجديد.
  1. مقارنة بين الحضارتين الأوروبية والإسلامية

    مع أننا لو انتقلنا إلى واقع الحياة الإسلامية حينئذ وعقدنا مقارنة بين الدينين والحضارتين لوجدنا البون شاسعاً والفرق بعيداً:
    1- لم يكن لدى أوروبا مركز حضاري يمكن أن يسمى "مدينة"بالمفهوم السائد عن المدن فيما بعد، وأكبر ما كانت تعرفه هو بيزنطة وروما اللتان لم تكونا سوى قريتين متأخرتين؛ إذا قورنتا بالمدن العالمية آنذاك بغداد، دمشق، القاهرة، قرطبة... إلخ.
    2- لم يؤلف في أوروبا خلال تلك الحقبة الطويلة كتاب علمي على الإطلاق، في حين نجد الواحد من علماء المسلمين يكتب العشرات وربما المئات من المصنفات في فنون المعرفة جميعها.
    وإذا كانت أوروبا تعد ظهور ترجمة كتب أرسطو بداية الخروج من عصر الظلمات، فإن الفضل عليها في ذلك يرجع إلى رجل ليس أوروبياً ولا نصرانياً، بل هو ابن رشد المتوفى سنة (1198م).
    ومن هذا المنطلق العنصري وبتلك الرواسب الجاهلية انتقلت أوروبا ببطء -في مرحلة مفعمة بالمفاجئات والانكسارات الحادة- من عصر الظلمات البربري إلى عصر الظلمات الصناعي، وصولاً إلى المرحلة المعاصرة من الظلمات المتراكمة المسماة "عصر ما بعد الحداثة".
    واستمر القدر الإلهي ألا تعتنق أوروبا الإسلام، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ))[يونس:100] هذا مع أن أساس نهضتها كان إسلامياً، وأن العربية كانت لغة العلم فيها إلى القرن الثامن عشر، وأن جامعاتها إنما قامت محاكاة للجامعات الإسلامية.
    وليت الأمر وقف عند هذا الحد غير أن ما فعلته أوروبا كان أفظع من مجرد التعصب لوثنيتها وترك الاهتداء بهدى الله؛ فقد تعدى ذلك إلى العدوان العسكري المتواصل أبداً على الإسلام وأهله، والوقوف الدائم مع كل عدو لهم وإن كان عابد حجر أو بقر!!
    لقد كان إجحافاً أن تنظر أوروبا للمسلمين النظرة إلى البرابرة، والقوط، والنورمانديين، والفايكنج، بلا أدنى اختلاف، لكن أنكى منه أن تتداعى القارة طولاً وعرضاً شرقاً وغرباً، وتهب هبة رجل واحد لتحرير الأراضي المقدسة من البرابرة الجدد زعمت!!
  2. الصدمة الحضارية الأوروبية

    وهكذا كانت الحملات الصليبية، وكانت الصدمة الحضارية التي لم تنسها أوروبا لحظة واحدة من عمرها:
    أوروبا التي لا تعرف التمدن تحاصر مدناً -هي صغرى في محيط الحضارة الإسلامية- لكن بعضها يبلغ عشرة أضعاف روما عاصمة المتحضرين المقدسة!!
    أوروبا التي لم تعرف العلم قروناً، بل لم تعرف كتاباً إلا الإنجيل ولا قارئاً إلا القسيس، تذهل للمكتبات الهائلة التي تختـزنها هذه المدن الصغرى من عامة وخاصة، وفي كل فنون المعرفة من الفلك إلى النقد الأدبي!!
    أوروبا التي لا تستطيع أن تستغفر ربها أو تصلي له أو تقدم له قرباناً إلا بتوسط البابا وكهنته، ولا تستطيع أن تقرأ كتابها المقدس ولا تفسره أو تترجمه إلى لغة حية، تجد كتاب الله الأخير -القرآن- في الشرق الإسلامي المتحضر تتلوه الملايين في المساجد والبيوت، والكل يعبد رب العالمين بلا واسطة مخلوق!!
    أوروبا التي يعيش (99%) من أهلها عبيداً ورقيق أرضٍ وفلاحين لا يستطيع أحدهم أن يتنفس الهواء خارج إقطاعيته، وإن حاول ذلك كان عقابه الكي بمياسم عريضة تطبع العبودية على جبينه مدى الحياة، تجد الناس في الشرق الإسلامي يعيشون ويتنقلون أحراراً في أرض الله الواسعة من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي، ويتاجرون مع جنوب إفريقيا والدول الإسكندنافية وربما مع جزر الكاريـبي!!
    أوروبا التي كان أفضل نموذج لوحداتها الإدارية هو حكومات "الكوميون" في إيطاليا، تجد الشرق المسلم يعيش أرقى النظم الإدارية في ممالك تبلغ مساحتها مساحة القمر!!
    أوروبا التي يحكمها الأباطرة حكماً استبدادياً مطلقاً، ويعتقد الرعايا أن القيصر من نسل الآلهة، وأن الله هو الذي أعطاه هذا الحق قدراً وشرعاً وأورثه لسلالته المقدسة، تفاجأ بالمسلمين وسلاطينهم من الترك تارة، ومن الكرد أخرى، ومن المماليك ثالثة، والكل بشر في نظر سائر البشر.
    أوروبا الغارقة في الهمجية والوحشية التي تحرق المخالفين وهم أحياء، وتتفنن في تعذيب المنشقين وإذلال المقهورين، ولا تعرف عهداً ولا ميثاقاً، تبهرها الأخلاق الإسلامية في الحرب والسلم سواء .
    أوروبا التي ما كانت تحسب العالم إلا أوروبا، والتي تسمي الوصول إلى شيء من أطراف الشرق اكتشافاً !!وظلت هكذا إلى القرن التاسع عشر، ففوجئت بالمسلمين يجوبون الدنيا شرقاً وغرباً تجاراً ورحالة ودعاة، بكل تواضع وهدوء، لقد وصلوا إلى أجزاء من شمال أوروبا قبل أن تعرفها أوروبا نفسها، هذا عدا العالم الشرقي الهائل السعة بالنسبة لها براً وبحراً ، وما المساجد التي اكتشفت في جزر الكاريـبي وصرخ كولومبس حين رآها قائلاً: "يا إلهي!! حتى اليابان فيها مساجد؟!!" إلا أحد الشواهد الثابتة على هذا.
    أوروبا التي كانت تتداوى بمركبات من الروث والبول وأشلاء الحشرات الميتة، تفاجأ بالعالم الإسلامي زاخراً بالمستشفيات والمعامل القائمة على منهج التجربة والاستقراء؛ مع الخبرة والحدس في التشريح والتشخيص والجراحة وتركيب الدواء، وكل ذلك مدون في موسوعات ضخمة ظلت المصدر الأول لنهضة الطب الحديث ولا تزال رافداً متجدداً له .
    وإجمالاً: ولدت أوروبا ولادة جديدة، ووجد لديها لأول مرة في تاريخها الشعور بأنها أمة واحدة تواجه عدواً أبدياً هو الإسلام، وكانت طفولتها في ذلك العصر الذي سمي "عصر النهضة" أو الانبعاث الذي تعمّدت ألا تجعله يبدأ تاريخياً بمعرفة الدين الرباني واكتشاف حضارته العظمى، بل بلحظة الإبحار العكسي إلى الجاهلية الإغريقية واكتشاف أرسطو.
  3. التناقضات الصارخة في الفكر الأوروبي

    إن ولادة أوروبا في ظل الحروب الصليبية وشعورها بذاتها من خلالها هو الذي يفسر تلك التناقضات الصارخة التي يعيشها الفكر الغربي متمثلة في هذه المعادلات الصعبة:-
    تعصب صليبي على الإسلام من بطرس الناسك إلى كلاوس، يوازيه داخلياً تمرد كامل على دين الصليب.
    ازدراء مطلق للعصور الوسطى باعتبارها عصور إيمان، يوازيه تحيز فاضح لها إذا قورنت بنظيرها التاريخي في الإسلام!!
    الحكم بالسذاجة والبدائية على الفكر الإغريقي باعتباره نقطة البداية في مسيرة الحضارة الغربية، يوازيه الحكم عليه بالعظمة والإبداع بالنسبة للحضارة الإسلامية.
    ولقد صدق أحد المفكرين الغربيين حين قال في وصف هذه الحالة من التناقض: ''كانت أوروبا تعبد أرسطو وتلعنه في آنٍ واحدٍ'' وهو التناقض الذي يدفع المسلمون ثمنه للحضارة الغربية إلى الآن.
    ولئن كانت كتب أرسطو بمنـزلة الكوة الصغيرة التي نفذت منها أوروبا في انفلاتها من سجن الكنيسة المظلم فإنها لم توصلها إلى بر الأمان، بل إلى نفق الجاهلية الإغريقية التي لم تخرج منه إلا إلى صحراء القلق والضياع التي يصطلي الإنسان الغربي المعاصر بلهيبها.